لكي نتمكن من تحليل طريقة فهمنا للأمور من حولنا وتأثير البيئة المحيطة على قراراتنا، يجب علينا أولاً معرفة كيف يعمل العقل؟ من خلال القيام بالعديد من التجارب توصل بروفيسور علم النفس دانيال كانيمان إلى وجود نظامين مختلفتين يعمل بها العقل بناءً عليهما يتم اتخاذ القرارات المختلفة، فالنظام الأول يسمى بالنظام التلقائي (Automatic System) ومن أبرز صفاته القيام باتخاذ القرارات بشكل تلقائي وسريع وعدم استهلاك الكثير من الوقت وبذل الجهد في القرار او الفكرة التي يتم اتخاذها، بمعنى أن معظم الأعمال اليومية التي نقوم بها تكون صادره من النظام التلقائي مثل: التحقق من أجهزتنا المحمولة فور الاستيقاظ من النوم، شرب القهوة قبل تناول الإفطار لدى الكثيرين، الذهاب مع أبسط الحلول المطروحة امامنا كاستخدام المصعد بدلاً من السلم وسلك الطريق المختصر للوصول للمنزل (بالرغم من علمنا بأنه مزدحم)، وبذلك تكون معظم قراراتنا التي اعتدنا على اتخاذها وممارستها بشكل متكرر او “بسبب تأثرنا بمن حولنا” تلقائية ولا نحتاج للكثير من الوقت لاتخاذها، فعند سؤال أحدهم لك: (ما هو حاصل جمع 2+2؟) بالتأكيد لا يمكنك أخذ الكثير من الوقت للإجابة.
النظام التلقائي كذلك هو عبارة عن ردة الفعل التلقائية والتي تكون حاضرة مع الانسان في اغلب الأوقات، مثال: عند اشتعال النار فإن ردة الفعل الطبيعية هي الخوف (وعند الأغلبية يصاحبها الهرب) ولكن بمرور لحظات بسيطة يقوم النظام الثاني ويسمى بالنظام العقلاني (Reflective System) بالتفكير بطريقة لإخمادها، اضافة الى أن أهم صفات النظام الثاني هي الوعي واستهلاك الوقت لاتخاذ القرار وتحليل المعطيات المطروحة امامه “عند دفع مبالغ الفواتير واختيار التخصص الجامعي وحتى الموافقة على عرض وظيفي” يكون اعتمادنا الأساسي على النظام العقلاني لأن اتخاذ مثل هذا النوع من القرارات يحتاج للتفكير والتحليل الدقيق، ومعظم الأفكار الصادرة عنه تعبر عن الأفكار الناتجة عن تحليل الوضع وقياسه وبالتالي اتخاذ التصرف السليم نحوه مثل: تقليل السائق لسرعة المركبة في الطقس الممطر لتجنب الانزلاق.
ومن هنا يأتي دور علم الاقتصاد السلوكي، “وهو عبارة عن استخدام علم النفس وعلم الاقتصاد بهدف التأثير على سلوك الفرد نحو اتخاذ القرارات التي تساعد على جعل حياته افضل” ومن أهم الجوانب التي يركز عليها علم الاقتصاد السلوكي هي فهم سلوك الفرد ومعرفة النقاط التي يجب استهدافها، فالاقتصاد التقليدي يركز غالباً على النظام الثاني ويصف الافراد بأنهم يتخذون القرارات بطبيعتهم بشكل عقلاني، ولكن يرى الاقتصاد السلوكي أن الفرد غير عقلاني ويصب اهتمامه على النظام الأول (التلقائي)، وبناء عليه يطرح العديد من التدخلات والأدوات التي بدورها تساعد في التأثير على قرارات الفرد ومن أهم الأدوات التي يستخدمها علم الاقتصاد السلوكي هي الصياغة وتصميم المعلومات حيث تعتبر من أهم المؤثرات على قرار الفرد مثل: “الحرص على اختيار العبارات التي تجذب المستهلكين في محلات التجزئة الكبرى وطريقة عرض المنتجات التي يحرص أصحاب المصلحة ان يتم بيعها بسرعة او ان يقوم المستهلك باختيارها بشكل تلقائي”. بالإضافة ان التدخلات التي يتم تطبيقها سهلة وغير مكلفة ولا تحد من الخيارات المطروحة لتقييد الافراد بشكل او آخر، من ابسط التجارب التي تم تطبيقها بهذا الصدد هي رفع نسبة استهلاك الطلاب للطعام الصحي في المدارس عن طريق إضافة تعديل بسيط في عرض الاطعمة الصحية داخل كافتيريا المدرسة حيث تم وضعها في بداية الصف لتحفيز الطالب على اختياراها اولاً.
من الممكن استحداث سياسات وبرامج عامة من خلال فهم السلوك في جميع جوانب الحياة (الصحة، التعليم، العمل، الادخار… وغيرها) والتي تؤثر على قرارات الافراد، ومن المهم للفرد نفسه تحديد ماهي الجوانب التي يمكنه تطويرها في ذاته للسعي نحو اتخاذ القرارات السليمة ومعرفة أبرز العقبات التي تواجهه والتي قد تكون بسبب اتباعه لبعض السلوكيات اليومية الخاطئة.